الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***
أنشد فيها، وهو من شواهد سيبويه: الكامل أعلاقه أم الوليد بعدم *** أفنان رأسك كالثغام المخلس على أن ما فيه مصدرية على قول بعضهم، خلافاً لسيبويه فإنه جعل ما كافة لبعد عن الإضافة. قال ابن هشام في المغني: وكونها فيه المصدرية هو الظاهر، لأن فيه بقاء بعد على أصلها من الإضافة، ولأنها لو لم تكن مضافة لنونت. انتهى. وسيبويه أورده في باب الحروف المشبهة للفعل فإنه بعد أن ذكر أن ما تكفها عن العمل، قال: ونظير إنما قول المرار الفقعسي: أعلاقة أم الوليد البيت جعل بعد مع ما بمنزلة حرف واحد، وابتدأه ما بعده. قال الأعلم، وتبعه ابن خلف: بعد لا يليها الجمل، وجاز ذلك، لأن ما وصلت بها لتتهيأ للجملة بعدها، كما فعل بقلما وربما، وما مع الجملة في موضع جر بإضافتها إليها، والمعنى: بعد شبه رأسك بالثغام المخلس. فما مع ما بعدها بمنزلة المصدر. هذا كلامهما، وهو خلاف كلام سيبويه، فتأمل، فإنه جعل ما كافة وهما جعلاها مصدرية. وإليه ذهب صاحب اللباب، قال: وليست ما في البيت بكافة لبعد عن الإضافة، بل مهيئة للإضافة إلى الجملة. وقال في التعليقة: وما في البيت وإن حكم بأنها كافة، إلا أن ذلك لا يعجبني، فإن بعد في البيت على معناه الأصلي، من اقتضاء الإضافة إلى شيء، وهو في المعنى مضاف لما بعده: كأنه قيل: بعد حصول رأسك أشمط كالثغام المخلس. فما ذكرت أقرب إلى الصواب إن شاء الله تعالى. انتهى. وأورده سيبويه في باب ما جرى في الاستفهام من أسماء الفاعلين والمفعولين مجرى الفعل من أوائل كتابه أيضاً. قال ابن خلف: الشاهد فيه إعمال المصدر عمل الفعل، ونصب أم الوليد بعلاقة لأنها بدل من اللفظ بالفعل، فعملت عمله، كأنه قال: أتعلق أم الوليد بعد الكبر! يقال: علق الرجل المرأة يعلقها علقاً من باب فرح، وعلاقة، إذا أحبها، وتعلقها تعلقاً. والعلاقة: الحب، وتكون العلاقة أيضاً الارتباط في الأمور المعنوية، كعلاقة إلخ صومة. والعلاقة: بالكسر هي علاقة السوط ونحوه من الأمور الحسية. وفي القاموس: العلاقة وتكسر: الحب اللازم للقلب؛ وبالفتح في المحبة ونحوها، وبالكسر في السوط ونحوه. والوليد: مصغر ولد بفتح الواو، قال الأعلم وابن خلف: وصغر الوليد ليدل على شباب المرأة، لأن صغر ولدها لا يكون إلا في عصر شبابها، وما يتصل به من زمان ولادتها. انتهى. وهذا الحصر غير صحيح، فإنها قد تكون مسنة ولها ولد صغير. والأولى أن يكون التصغير للتحبيب، ونكتة إضافتها إليه دون البنت للمدح، فإن قولهم: أم الوليد، وأم الصبيين صفة مادحة للمرأة. وقال السيرافي: الرواية الصحيحة أم الوليد بالتكبير، ويكون مزاحفاً، أي: بالوقص، وهو إسقاط الحرف الثاني من متفاعلن بعد إسكانه، قال: وإنما جعلت الرواية بالتصغير لأنه أحسن في الوزن. والوليد: الصبي. انتهى. والأفنان: جمع فنن بفتحتين، وهو الغصن: وأراد بها ذوائب شعره، على سبيل الاستعارة. والثغام بفتح المثلثة والغين المعجمة، قال أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات: أخبرني بعض الأعراب، قال: تنبت الثغامة خيوطاً طوالاً دقاقاً من أصل واحد، وإذا جفت ابيضت كلها. وهو مرعى تعلفه إلخ يل. وإذا أمحل الثغام كان أشد ما يكون بياضاً، ويشبه به الشيب. قال حسان: الكامل إما ترى رأسي تغير لونه *** شمطاً فأصبح كالثغام الممحل وإذا كان الثغام مخلساً شبه به الشعر الشميط، وهو الذي اختلط بياضه بالسواد، والخليس من النبات: الذي ينبت إلخ ضر منه في خلال يبيسه. قال المرار الفقعسي: أعلاقةً أم الوليد البيت أي: بعد ما شمطت. والرأس الشميط: الذي نصفه أبيض، ونصفه أسود. وقال بعض الرواة: إن رأسه لثاغم، إذا ابيض كله. وقال الدينوري في موضع آخر من كتابه: إلخ لس والخليس، وهما جميعاً: الكلأ اليابس ينبت في أصله الرطب، فيختلط به. قال أبو زياد: يقال أخلست الأرض، وهو إلخ ليس. ومنه قيل: أخلس رأسه، إذا شاب فاختلط بالسواد. وقال في موضع آخر: وإذا كان العشب منه الرطب إلخ ضر ومنه الأصفر الهائج، قيل: أخلس النبت يخلس إخلاساً. والنبت خيس ومخلس. ومنه قيل للشعر إذا شمط واختلط بياضه بسواده: خليس. انتهى. والاستفهام في البيت، للتوبيخ. يخاطب الشاعر نفسه، ويقول: أتعلق أم الوليد، وتحبها وقد كبرت وشبت. والمرار ين سعيد الفقعسي: شاعر إسلامي تقدمت ترجمته في الشاهد التاسع والتسعين بعد المائتين. وأنشد بعده: البسيط أعن ترسمت من خرقاء منزلةً *** ماء الصبابة من عينيك مسجوم على أن عن أصلها أن، قلب بنو تميم وبنو أسد همزتها عيناً. قال ابن يعيش في شرح المفصل: وذلك في أن وأن خاصة، إيثاراً للتخفيف، لكثرة استعمالها وطولهما بالصلة، قالوا: أشهد عن محمد رسول الله. ولا يجوز مثل ذلك في المكسورة. انتهى. وقال ابن المستوفي: إنما قلبوها إلى العين كراهية اجتماع مثلين، وقلبها إلى الهاء أكثر من قلبها إلى العين. انتهى. وفيه نظر، فإن أن وإن غير لازم استعمالهما مع ألف الاستفهام. وهي لغة مرجوحة، قال ثعلب في أماليه: ارتفعت قريش في الفصاحة عن عنعنة تميم، وكشكشه ربيعة، وكسكسة هوزان، وتضجع قيس، وعجرفية ضبة، وتلتلة بهراء. فأما عنعنة تميم، فإن تميماً تقول في موضع أن: عن، تقول: عن عبد الله قائم. قال: وسمعت ذا الرمة ينشد عبد الملك: أعن ترسمت من خرقاء منزلةً قال: وسمعت ابن هرمة ينشد هارون، وكان ابن هرمة ربي في ديار تميم: البسيط أعن تغنت على ساقٍ مطوقةٌ *** ورقاء تدعو هديلاً فوق أعواد وأما تلتلة بهراء، فإنهم يقولون: تعلمون وتفعلون وتصنعون، بكسر أوائل الحروف. انتهى. وأما ابن جني في سر الصناعة بعد نقله ما تقدم: فأما كشكشة ربيعة فإنما يريد بها قولها مع كاف ضمير المؤنث: إنكش، ورأيتكش، وأعطيتكش، تفعل هذا في الوقت، فإذا وصلت أسقطت الشين، وأما كسكسة هوازن فقولهم أيضاً: أعطيتكس، ومنكس، وعنكس. وهذا أيضاً في الوقف دون الوصل. انتهى. والهمزة للاستفهام التقريري خاطب نفسه على طريق التجريد. وأن ترسمت في تأويل مصدر مجرور بلام مضمرة متعلقة بمسجوم. والتقدير: الأجل ترسمك ونظرك دارها التي نزلت بها، أسالت عينك دموعها؟ وقال ابن المستوفي: في كتب الزمخشري في الحواشي: المعنى أمن أن ترسمت، أي: ألأن ترسمت، أي: تخليت، منصوب لأنه مفعول به، والتقدير: ألترسمك، من خرقاء منزلةً مسجم ماء عينيك، كقوله تعالى: {أن تحبط أعمالكم}. انتهى. وهذا غلط من الكاتب، والصواب مفعول له. انتهى. وليس بغلط كما زعم، فإن حرف الجر إذا حذف انتصب ما بعده على المفعول به. وهو معروف شائع. قال: وترسمت الدار: تأملت رسمها، وكذلك إذا نظرت، وتفرست أين تحفر وتبنى. قاله الجوهري. وخرقاء: صاحبته، وهي من بني عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. والخرقاء: غير الصناع. انتهى. أقول: قد تقدم في ترجمة ذي الرمة في الشاهد الثامن من أول الكتاب. أن خرقاء هي مية، وهو قول ثعلب، وقيل:غيرها، وهو قول ابن قتيبة. والبيت مطلع قصيدة طويلة لذي الرمة. وقال أبو العباس الأحول في شرح ديوانه: حدثنا بعض أصحابنا عن النسير ابن قسيم، أبي جهمة العدوي، قال: سمعت ذا الرمة، يقو ل: من شعري ما ساعدني فيه القول، ومنه ما أجهدت نفسي فيه، وفيه ما جننت فيه جنوناً، فأما الذي جننت فيه جنوناًَ فقولي: ما بال عينك منها الماء ينسكب وأما ماطاوعني فيه القول فقولي: خاليلي ععوجا من صدور الرواحل وأما ما أجهدت نفسي فيه فقولي: أأن ترسمت من خرقاء منزلةً وتقدم شرحه مجملاً في الشاهد الحادي والخمسين بعد الثمانمائة. وأنشد بعده: الطويل علي حراصاً لو يسرون مقتلي هو عجز من بيت لامرئ القيس، وهو: تجاوزت أحراساً إليها ومعشر *** علي حراصاً لو يسرون مقتلي على أن لو فيه مصدرية. قال المرادي في الجنى الداني: علامتها أن يصلح في موضعها أن كقوله تعالى: {يود أحدهم لو يعمر}. ولم يذكر الجمهور أن لو تكون مصدرية، وذكر ذلك الفراء، وأبو علي، والتبريزي، وأبو البقاء، وتبعهم ابن مالك. ومن أنكرها تأول الآية ونحوها على حذف مفعول يود وجواب لو، أي: يود أحدهم طول العمر، لو يعمر بذلك ألف سنة لسر بذلك. ولا تقع لو المصدرية غالباً إلا بعد مفهم تمن، وقل وقوعها بعد غير ذلك، كقول قتيلة بنت النضر: الكامل ما كان ضرك لو مننت وربما من الفتى وهو المغيظ المحنق انتهى. قال ابن هشام في المغني: ولا خفاء بما في ذلك في الجواب من التكلف. ويشهد للمثبتين قراءة بعضهم: ودوا لو تدهن فيدهنوا بحذف النون، فعطف يدهنوا بالنصب على تدهن، لما كان معناه أن تدهن. ويشكل عليهم دخولها على أن في نحو: وما علمت من سوءٍ تود لو بينها وبينه أمداً بعيداً . وجوابه: أن لو إنما دخلت على فعل مقدر، تقديره: تود لو ثبت أن بينها وبينه. وأورد ابن مالك السؤال في: لو أن لنا كرة ، وأجاب بما ذكرناه، وبأن هذا من توكيد اللفظ بمردافه نحو: فجاجاً سبلاً . والسؤال في الآية مدفوع من أصله، لأن لو فيها ليست مصدرية. وفي الجواب الثاني نظر، لأن تأكيد الموصول قبل مجيء صلته شاذ، كقراءة زيد ابن علي: والذين من قبلكم بفتح الميم. انتهى. وقد أورد الشارح هذه الآية هنا تبعاً لابن مالك، فيرد عليه أنها لو التي للتمني، لا مصدرية. وقد ناقش الدماميني في توجيه دليل المثبتين بأنّ، يدهنوا منصوب بأن مضمرة جوازاً، والمجموع منها ومن صلتها، معطوف على المجموع من لو وصلتها، فهو من باب عطف مصدر على آخر. وهذا ماشٍ على القواعد، بخلاف تخريج ابن هشام. انتهى. والبيت من معلّقة امرئ القيس المشهورة، وقبله: وبيضة خدرٍ لا يرام خباؤه *** تمتّعت من لهوٍ بها غير معجل قوله: وبيضة خدر إلخ ، الواو واو ربّ، والبيضة استعارة للمراة الحسناء، قال الزوزنيّ: تشبّه النساء بالبيض من ثلاثة أوجه: أحدها: بالصحة والسلامة عن الطّمث، ومنه قول الفرزدق: الوافر خرجن إليّ لم يطمثن قلبي *** وهنّ أصحّ من بيض النّعام الثاني: الصّيانة والسّتر، لأنّ الطائر يصون بيضه ويحضنه. الثالث: في صفاء اللون ونقائه. وربما شبّهت النساء ببيض النّعامة، وأريد أنهنّ بيضٌ يشوب ألوانهنّ صفرة. وكذلك بيض النعامة. ومنه قول ذي الرمة: البسيط كأنها فضة قد مسّها ذهب انتهى. والخدر، بالكسر: السّتر، ويطلق إلخ در على البيت إن كان فيه امرأة. وأخدرت الجارية: لزمت إلخ در. وأخدرها أهلها، يتعدّى ولا يتعدّى، كخدّروها، بالتشديد والتخفيف. والمعنى: ستروها وصانوها عن الامتهان والخروج لقضاء الحوائج. وقوله: لا يرام، أي: لا يطلب. والروم: الطّلب. والخباء، بكسر المعجمة بعدها موحدة: بيت يعمل من وبر وصوف وشعر، ويكون على عمودين وثلاثة. والبيت أكبر منه، على ستة أعمدة إلى تسعة. وتمتّعت: جواب رب. والتمتّع: التلذّذ بالمتاع، وهو كل ما ينتفع به كالطعام، والبزّ وأثاث البيت. واللّهو: ترويح النفس بما لا تقتضيه الحكمة. وغير روي بالجر على أنه صفة للهو، وبالنصب على أنه حال من التاء في تمتّعت. ومعجل: اسم مفعول من أعجله، أي: حمله على أن يعجل. قال التبريزي: غير معجل، أي: غير خائف، أي: لم يكن ذلك مما كنت أفعله مرّة. وقال أبو جعفر: أي غير خائف. وقال الإمام الباقلاني في إعجاز القرآن،: قالوا: إنها كبيضة خدر في صفائها. وهذه كلمة حسنة، ولكن لم يسبق إليها، بل هي دائرة في أفواه العرب، وتشبيه سائر. وعني بقوله: غير معجل، أنه ليس ذلك مما يتّفق قليلاً وأحياناً، بل يتكرّر له بها. وقد يحمل على أنه رابط الجأش، فلا يستعجله إذا دخلها خوف حصانتها ومنعتها. وليس في هذا البيت كبير فائدة، لأنّ الذي في سائر أبياته قد تضمّن مطاولته في المغازلة واشتغاله بها، فتكريره في هذا البيت مثل ذلك قليل المعنى، إلا الزيادة التي ذكر من منعهتا. وهو مع ذلك سليم اللفظ في المصراع الأول دون الثاني. انتهى. وقوله: تجاوزت أحراس إلخ ، قال التبريزي: هو جمع حرس. انتهى. وهو كحجر وأحجار. وحرس: جمع حارس، كخدم جمع خادم، كذا قال الزوزني. وأجاز أيضاً أن يكون الأحراس جمع حارس كصاحب وأصحاب، وناصر وأنصار، وشاهد وأشهاد. ومنعه بعضهم، لأنّ جمع فاعل على أفعال لم يثبت. قال: وأصحاب إنّما هو جمع صحب بكسر الحاء، كنمر وأنمار وصحب بسكون الحاء: اسم جمع، كنهرٍ وأنهار. قال الجوهري: فأمّا الأشهاد والأصحاب فهو جمع شهيد وصحب. وإليها متعلق بتجاوزت. وعنى بالمعشر قومها، وهو الجماعة من الناس. وعلى متعلق بحراص، وهو صفة معشر. وروي أيضاً: تجاوزت أحراساً وأهوال معشرٍ *** عليّ حراصٍ.............. فحراص وصف معشر في النصب والجر، وهو جمع حريص ككرام جمع كريم. وفعله يتعدّى بعلى، يقال: حرص عليه حرصاً من باب ضرب، إذا اجتهد، والاسم الحرص. وقوله: لو يشرّون إلخ ، المصدر المؤوّل من لو وما بعدها بدل اشتمال من الياء في عليّ. وإلى مصدرية لو ذهب التبريزي، قال: يريد أن يشرّوا. وأن تضارع لو في مثل هذا الموضع، يقال: وددت أن يقوم زيد، ووددت لو قام، إلا أن لو يرتفع المستقبل بعدها. وأن تنصبه. قال تعالى: {أيودّ أحدكم أن تكون له جنّةٌ من نخيلٍ وأعناب} وقال في موضع آخر: ودّوا لو تدهن فيدهنون . انتهى. والمقتل: اسم مصدر بمعنى القتل. وقوله يشرّون، قال العسكري في كتاب التصحيف: ومما يروى على وجهين هذا البيت. روى الأصمعي: يشرّون بالشين المعجمة ومعناه يظهرون، يقال: أشررت الشيء، إذا بسطته. وقال الشاعر: الطويل وحتى أشرّت بالأكفّ المصاحف أي: أظهرت. ومعناه: ليس يقتل مثلي خفاء. فيكون قتلهم إيّاه هو الإظهار. ورواه غيره: لو يسرّون مقتلي من غيظهم عليّ. وهذا مثل قول القائل: هو حريص عليّ لو يقتلني. يقال: أسررت الشيء، إذا أظهرته، وهو من الأضداد. ومعنى يسرّون، أي: هم حراص على إسرار قتلي، وذلك غير كائن، لنباهتي وذكري. انتهى. وقال في موضع آخر: قال أبو عبيدة في قوله: لو يسرّون مقتلي: أي يظهرونه. ورواية الأصمعي: لو يشرّون، أي يظهرون، يقال: أشررت الثوب، إذا نشرته، وشررته أيضاً. انتهى. فمعنى الروايتين متّفق. وهذا أحسن من قول التبريزي تبعاً لغيره: من رواه بسين غير معجمة احتمل أن يكون معناه يكتمون، ويحتمل أن يكون معناه يظهرون، وهو من الأضداد. انتهى. قال الزوزني: يقول لك تجاوزت في زيارتي إليها أهوالاً كثيرة، وقوماً يحرسونها، حراصاً على قتلي جهاراً. وترجمة امرئ القيس تقدمت في الشاهد التاسع والأربعين من أوائل الكتاب. أنشد فيها: الطويل تعدون عقر النيب أفضل مجدكم *** بني ضوطري لولا الكمي المقنعا على أن الفعل مقدر بعد لولا التحضيضية، أي: لولا تعدون. والكمي: الشجاع، مفعول أول لهذا المقدر، بتقدير مضاف. والمفعول الثاني محذوف، والتقدير: لولا تعدون عقر الكمي أفضل مجدكم. والمقنع: الذي وضع على رأسه البيضة والمغفر، وبني ضوطرى: منادى، وهي كلمة سب وذم، وتقدم شرح البيت فالشاهد الرابع والستين بعد المائة. وأنشد بعده: الطويل يقولن: ليلى أرسلت بشفاعةٍ *** إلي فهلا نفس ليلى شفيعها على أن مجيء الجملة الاسمية بعد هلا ضرورة. وتقدم الكلام عليه في الشاهد إلخ امس والستين بعد المائة. وأنشد بعده: الطويل ألا زعمت أسماء أن لا أحبه *** فقلت: بلى لولا ينازعني شغلي على أنه قد تجيء الجملة الفعلية بعد لولا غير التحضيضية. وإنما كانت هنا غير تحضيضية، لأن الحض طلب بحث وإزعاج، والشاعر لم يرد أن يحث نفسه على منازعة الشغل، وإنما يريد الاعتذار عن القيام بمحبتها بهذا المانع، وهو مجاذبته الشغل. وإنما لم يقل الشارح المحقق: وغير الامتناعية لأنها لا تدخل على الفعل. وأجاب عنها بجوابين: أحدهما: أن لولا ليست كلمة واحد ركبت من كلمتين، وإنما هي كلمتان. قال ابن الأنباري: لولا هنا غير مركبة، بل لا نافية على حالها، ولو على حالها، وإنما أول لا بلم ليبين أنها مستقلة في إفادة النفي كلم في: لو لم. والجواب الثاني: أن لولا هي الامتناعية، لكن كان الأصل: لولا أن ينازعني شغلي، فلما حذفت أن ارتفع الفعل كما في قولهم: تسمع بالمعيدي لا أن تراه فيكون أن المحذوفة مع الفعل في تأويل مبتدأ، أي: لولا منازعتي شغلي. ولا يخفى أن هذا ليس من مواضع حذف أن. والجواب الجيد هو الأول، ولذا قدمه الشارح. وقد أشار إليهما ابن مالك في التسهيل، فقال: وقد يلي الفعل لولا غير مفهمة تحضيضاً، فيؤول بلو لم، وتجعل المختصة بالأسماء والفعل صلة أن. قال شارحه ابن عقيل: يشير بهذا تأويل ما استشهد به الكسائي على ما ذهب إليه من أن المرفوع بعد لولا الامتناعية مرفوع بفعل مضمر، لظهوره في قوله: ألا زعمت أسماء أن لا أحبها البيت وقوله: البسيط لا در درك إني قد رميتهم *** لولا حددت ولا عذري لمحدود والتأويل هو أن لو حرف امتناع لامتناع، ولا نافية بمعنى لم، أي: لو لم ينازعني، ولو لم أحد. ولا قد نفي بها الماضي، نحو: فلا صدق ولا صلى ، أي: لم يصدق، ولم يصل. ولولا حرف امتناع لوجود، وما بعدها مبتدأ بإضمار أن، أي: لولا أن ينازعني، ولولا أن حددت. ولما حذفت بطل عملها في تنازعني فارتفع. انتهى. ولا حاجة إلى قوله: ولا قد نفي بها الماضي إلخ ، بالنسبة إلى البيت الأول، لأن لا إنما تؤول بلم إذا دخلت على الماضي كالبيت الثاني. وأما إذا دخلت على المضارع كالبيت الشاهد فلا تؤول به. وإنما قالوا عند إيراده وحده: إن لولا بمعنى لو لم، لما ذكرنا. وذهب الإمام المرزوقي إلى أن لولا الامتناعية قد يليها الفعل بقلة، ولا حاجة إلى التأويل، كالبيتين. وأعلم أن لولا فيهما سواء كانت لو الشرطية مع لا، وامتناعية لا بد لها من جواب، فجوابها إما في ما أوجبه بلى قبلها، والبيت الذي يليها، وهو: جزيتك ضعف الود لما اشتكيته *** وما إن جزاك الضعف من أحدٍ قبلي والبيتان ولا قصيدةٍ لأبي ذؤيب الهذلي. قال الإمام المرزوقي في شرحها: قوله: ألا زعمت أسماء... إلخ ، الزعم يستعمل فيما يرتاب به ولا يحقق، ويتعدى إلى مفعولين، وأن لا أحبها قد سد مسدهما، وأن هذه مخففة من الثقيلة. أراد أني لا أحبها. وأن الأمر والحديث لا أحبها، كأنها استزادت زيارته لها. وتوفره عليها، واستقصرت تهالكه فيها، وشغفه بها، وادعت عليه أنه قد حال عن العهد، وتحول متراجعاً في درجات الود، فقال مجيباً لها، ومبطلاً لدعواها: بلى أحبك، وأرى من المثابرة عليك، والسعي في تحصيل بعض المراد بالنيل منك، ما هو الهوى والمنى، لولا الشغل المنازع، والعائق المانع. وللا يدخل لامتناع الشيء لوجود غيره، وهو يربط جملة من مبتدأ وخبر بجملة من فعل وفاعل، إلا أن خبر المبتدأ يحذف تخفيفاً ويكتفى بجواب لولا عنه. وقد يؤتى بالفعل والفاعل بدلاً من المبتدأ والخبر، وهذا كما نحن فيه، ألا ترى أنه قال: لولا ينازعني شغلي. وجواب لولا، في قوله: بلى، وقد تقدم، والتقدير: لولا مجاذبة الشغل الذي أنا بصدده، لقمت فيك مقام المحب،فإني أحبك. ومثل هذا في تقدم الجواب، وكون الفعل والفاعل مكان المبتدأ والخبر، قول إلخ ر: البسيط لا در درك إني قد رميتهم *** لولا حددت ولا عذرى لمحدود وذكر بعضهم أن جواب لولا فيما بعده: وهو: جزيتك ضعف الود البيت. والضعف هنا بمعنى المضاعف، كقوله تعالى: {فآتهم عذاباً ضعفاً من النار}، أي: مضاعفاً. وبعده: فإن تك إنثى في معدٍّ كريمةً *** علينا فقد أعطيت نافلة الفضل والنافلة: الغنيمة، وبه سمي ما لا يجب من الطاعات نوافل. وقيل لمن فعل إحساناً لا يلزمه: تنفل به. والمعنى: إن تكرم علينا امرأة في نساء معدٍ، فقد جعل لك عليها بعد الواجب في إيثارك، وتكرمتك زيادة تفضلين بها، وإنما أضاف النافلة إلى الفضل لما كانت تفضل على من وساها بتلك النافلة. ثم قال بعد أربعة أبيات: الطويل فإن تزعميني كنت أجهل فيكم *** فإني شريت الحلم بعدك بالجهل وقال صحابي: قد غبنت وخلتني *** غبنت فما أدري أشكلهم شكلي على أنها قالت: رأيت خويلد *** تنكر حتى عاد أسود كا((لجذل فتلك خطوبٌ قد تملت شبابن *** زماناً فتبلينا المنون وما نبلي وتبلي الألى يسلئمون على الألى *** تراهن يوم الورع كالحدإ القبل وقوله: فإن تزعميني إلخ ، قال المرزوقي: الأكثر زعمت أنه كان يفعل كذا. وقد جاء: زعمته كان يفعل، فلهذا قال تزعميني. وقال الله تعالى: {زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا}، وقال عز ذكره: بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعداً . ويستشهد أصحابنا بدخوله على أن المخففة والمثقلة، على حد ما يدخل حسبت، وظننت عليهما، أنه بتعدي لمفعولين. وقد استشهد سيبويه بهذا البيت أيضاً. وأراد أبو ذؤيب الاعتذار إلى المرأة لما قالت: إنك لا تحبني، فقال متنصلاً إليها، وذاكراً الوجه الذي تداخلها منه، ما أشكلها، وأخرجها إلى عتبه وسوء الظن به: إن احتججت في دعواك علي بأني كنت استعمل الجهل في حبكم فأقدم على ألأمور المنكرة، وأركب الأهوال المردية، والآن قد كففت وكنت أتعاطى من اللهو والصبا ما قد اطرحته الساعة، فذلك ذلك على زوال الحب. فليس استدلالك بصحيح، وما حدث لي استغناء عنك، ولا استبدلت بحبك قلاك، ولكني تحملت، فجميع ما ترينه، وتنكرينه من العادات المستجدة نتائج الحلم والعقل، فأما الحب فكما كان، والأيام تزيده استحكاماً، وشريت واشتريت بمعنى، وهو هنا مثل. انتهى كلامه. أقول: وأورده سيبويه في باب ظننت وأخوتها من أوائل كتابه فإنه بعد أن ذكر عملها، قال: ومما جاء في الشعر معملاً قول أبي ذؤيب. وأنشد البيت. ولم يرد أن عملها إنما يكون في الشعر، وأنما أرا ومما جاء في الشعر شاهداً على إعمالها هذا البيت. والياء المفعول الأول، وجملة كنت أجهل فيكم في موضع المفعول الثاني. وأورده ابن هشام في المغني، في الجملة التي تقع مفعولاً ثانياً من الباب الثاني. قال: وقد أجتمع وقوع خبري كان وإن، والثاني من مفعولي باب ظن، جملة في قول أبي ذؤيب. وأنشد البيت. وأورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى: {ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً} على أن الاشتراء فيه مستعار للاستبدال، كما في البيت. وزعم بعض من كتب عليه أن أجهل، فيه أفعل تفضيل، فرواه بالنصب، وقال: أي: إن تزعميني أني أجهل الناس فيكم لارتكاب بطالات الهوى، فتحولي عن هذا الزعم، فإني أخذت الحلم بعدك بالجهل. وهذا وإن كان معناه صحيحاً إلا أنه ليس برواية. وقوله: وقال صحابي قد غبنت إلخ ، قال المرزوقي: يقول: أنكر أصحابي مني ما تمسكت به من ارعواء وحلم، حتى قالوا: إنك مغبون فيما قايضت عليه من صباً وجهل. وأظنني الغابن الرابح، لا المخدوع إلخ اسر. فلا أعلم أمقصدهم مقصدي، وطريقهم طريقي، ثم غلط أحدنا حتى افترقنا، أم اختلفنا في أصل ما نظرنا فيه، وأخذنا به، فلذلك لم يتفق معتبرنا. وقال هذا وهو يعلم اختلاف أحوالهم، وتباين طرقهم، زارياً عليهم وموبخاً لهم. ومن هذا الباب قول الله تعالى: {وإن وغياكم لعلي هدىً وفي ضلالٍ مبين}. وعلى هذا التفسير يكون أم لا مضمراً بعد قوله: أشكلهم شكلي، وساغ حذفه لما في الكلام من الدلالة عليه، وتكون الألف للتسوية. ويجوز أن يكتفي بقوله: أشكلهم شكلي، فلا يقصد إلى معادلة ولا تسوية. وذلك أن أدري من أخوات أعلم، وقد يجوز أن تقول: قد علمت أزيد في الدار. وحكى ذلك سيبويه. ولو قلت: سواء علي وما أبالي، لم يكن بد من ذكر أم. ومثل الأول قول أبي ذؤيب في أخرى: الطويل فما أدري رشدٌ طلابها وقد سمعت من يقول: إن ألأمر في الكل سواء، وإن أم حيث لم ينطق به مقدر، وإن أبا الحسن حكى أن بعضهم، قال: علمت أزيدٌ عندك، لا يكتفي به إلا بعد إضمار. وهو قول قوي، وفي هذا كلام ليس هذا موضع بسطه. انتهى. وقوله: على أنها قالت إلخ ، يريد أن هذه المرأة كما أنكرت عادتي، أنكرت حالتي، فقلت: رأيت أبا ذؤيب، وهو خويلد، تغير عن المعهود، واسود حتى صار كالجذل، بكسر الجيم وسكون الذال المعجمة، وهو إلخ شبة التي تنصب للإبل الجربي فتحتكط بها، وتسود بما يعلقها من طلائها. ثم أخذ يعتذر من تغير هيئته ولونه، وتأثير الزمان فيه، كما اعتذر من تغير شيمته، فقال: فتلك خطوب البيت يقول: إن الذي غيرنا خطوب تناولت من قوانا، واستمتعت بنا من لدن شبابنا إلى يومنا. والدهر يبلي جدة أهله وهم لا يبلونه، ويأكلهم، ويشرب عليهم، ولا ينتقمون منه، وأشار إلى أنواع المنايا، وأجناس الحوادث بقوله: المنون. وقوله: وتبلى الألى البيت يقول: وتبلي حوادث الدهر الرجال الذين يستلئمونه اللأمات، وهي الدروع، راكبين إلخ يل، التي تراهن في يوم الفزع لطموح أبصارهن، وتقليب أعينهن ذكاءً وشهامة، كأنهن الحدأ القبل. ويستلئمون صلة الألى، لأنه في معنى الذين، وعلى الألى: في موضع الحال، لأنك إذا قلت: رأيت زيداً على فرس، فالمعنى راكباً فرساً، وتراهنّ مع ما بعده صلة الألى الثانية. والحدأ: جمع حدأة كعنب جمع عنبة، وهي طائر تصيد الجرذان. قال إلخ ليل: وقد تفتح حاؤه. والقبل: جمع أقبل وقبلاء، وهو من صفة الحدأ. والقبل: أن تقبل كلّ واحدةٍ من العينين على إلخ رى، وهو أشدّ من الحول، وإذا كان خلقة كان مذموماً، وهم يصفون إلخ يل بالشّوس والخوص، والقبل، يريدون أنها تفعل ذلك لعزّة أنفسها. وقد استشهد شرّاح الألفيّة وغيرهم بهذا البيت، على استعمال الألى لجميع المذكر والمؤنث. وهو الذين واللاتي، بدليل ما عاد على كلّ منهما من ضميره. وترجمة أبي ذؤيب تقدّمت في الشاهد السابع والستين من أوائل الكتاب. أنشد فيه، وهو من شواهد س: البسيط قد أترك القرن مصفرّاً أنامله هو صدر، وعجزه: كأن أثوابه مجّت بفرصاد على أنّ قد مع المضارع تكون للتكثير في مقام التمدّح والافتخار. قال سيبويه: وتكون قد بمنزلة ربّما. وأنشد البيت، وقال: كأنه قال: ربّما. وأراد بربّما التكثير. ونقله عنه ابن هشام في المغني، وقال: الرابع من معاني قد التكثير، قاله سيبويه في قول الهذلي: قد أترك القرن مصفرّاً أنامله وقاله الزمخشري في قد نرى تقلّب وجهك في السماء، قال: أي: ربّما، ومعناه تكثير الرؤية. ثم استشهد بالبيت، واستشهد جماعة على ذلك ببيت العروض: البسيط قد أشهد الغارة الشّعواء تحملني *** جرداء معروقة اللّحيين سرحوب انتهى. وقد جعل الزمخشري في تفسير سورة التكوير: أصل مفاد قد وربّما التقليل والتكثير، إنما جاء من عكس الكلام. قال عند قوله تعالى: {علمت نفسٌ ما أحضرت}، قال: فإن قلت: كلّ نفس تعلم ما أحضرت، كقوله تعالى: {يوم تجد كلّ نفسٍ ما عملت من خيرٍ محضراً} والأنفس واحدة، فما معنى قوله: علمت نفس ؟ قلت: هو من عكس كلامهم الذي يقصدون به الإفراط فيما يعكس عنه. ومنه قوله تعالى: {ربما يودّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين} ومعناه معنى كم وأبلغ. ومنه قول القائل: قد أترك القرن مصفرّاً أنامله وتقول لبعض قوّاد العسكر: كم عندك من الفرسان؟ فيقول: ربّ فارسٍ عندي، أو: لا تعدم فارساً عندي. وعنده المقانب، وقصده بذلك التّمادي في كثرة فرسانه، ولكنه أراد إظهار براءته من التزيّد، وأنه ممّن يقلّل كثير ما عنده فضلاً أن يتزيّد، فجاء بلفظ التقليل، ففهم منه معنى الكثرة على الصحة واليقين. انتهى كلامه. وزعم ابن مالك أن مراد سيبويه أن قد مثل ربما في التقليل، لا في التكثير. ورد عليه أبو حيان، وانتصر بعضهم لا بن مالك. وقد نقل الجميع الدماميني في الحاشية الهندية، وصحح كلام أبي حيان، ولابأس بإيراده، فنقول: قال ابن مالك: إطلاق سيبويه القول بأنها بمنزلة ربما، موجب للتسوية بينهما في التقليل والصرف إلى المضيّ. واعترضه أبو حيان، فقال: لم يبين سيبويه الجهة التي فيها قد بمنزلة ربما، ولا يدل على ذلك التسوية في كل الأحكام، بل يستدل بكلام سيبويه على نقيض ما فهمه ابن مالك، وهو أن قد بمنزلة ربما في التكثير فقط. ويدل عليه إنشاد البيت، لأن الإنسان لا يفخر بما يقع منه على سبيل الندرة والقلة، وإنما يفتخر بما يقع منه على سبيل الكثرة، فيكون قد بمنزلة ربما في التكثير. انتهى. وانتصر بعض الفضلاء لابن مالك رادّاً كلام أبي حيان، فقال: أما قوله: لم يبين سيبويه الجهة... إلخ ، فإطلاق التسوية كافٍ في الأحكام كلها، إلا ما تعين خروجه. وأما قوله: لأن الإنسان... إلخ ، فجوابه أن فخر الإنسان بما يقع منه كثيراً إنما يكون فيما يقع قليلاً وكثيراً، فيفخر بالكثير منه، أما ما لا يقع إلا نادراً فقط، فإنه يفخر بالقليل منه لاستحالة الكثرة فيه. وترك المرء قرنه مصفرّ الأنامل يستحيل وقوعه كثيراً، وإنما يتفق نادراً، فلذلك يفتخر به؛ لأن القرن هو المقاوم للشخص، الكفء له في شجاعته، فلو فرض مغلوباً معه في الكثير من الأوقات لم يكن قرناً له، إذ لا يكون قرناً إلا عند المكافأة غالباً. إذ تقرر هذا، فنقول: لما كان قوله القرن يقتضي أنه لا يغلب قرنه، لأن القرنين غالب أمرهما التعارض، ثم قضى بأنه قد يغلبه، حملنا ذلك على القلة صوناً للكلام عن التدافع، وقلنا: المراد أنه بتركه كذلك تركاً لا يخرجه عن كونه قرناً.وذلك هو الترك النادر، لئلا يدفع آخر الكلام أوله. والزمخشري فهم ما فهمه أبو حيان من أن قد في البيت للتكثير، فقد اتجهت المؤاخذة على ابن هشام في نقله هذا المعنى عن سيبويه؛ فإن سيبويه لم يقله نصاً، وإنما فهمه أبو حيان عنه. ثم أبو حيان ليس جازماً به، وإنما قاله معارضاً لفهم ابن مالك، ومثل هذا لا يكفي في تسويغ النقل عن سيبويه أنه قال: إن قد في البيت للتكثير، وغايته فهمٌ في جوّزه أبو حيان، وسبقه الزمخشري إليه، وهو معارض لفهم ابن مالك أحد المجتهدين في النحو. كذا قال ذلك الفاضل. قلت: حاصل كلامه على البيت أن التكثير فيه ملزم للتناقض بناء على أن القرن هو الكفء، وكثرة مغلوبيّته تمنع كونه قرناً، وقد فرض أنه قرن. هذا خلف. وإنما يتم ذلك، أن لو كان المراد بالقرن واحداً، وهو ممنوع، بل الظاهر أن المراد به الجنس. فإذا فرضنا أنه غلب جميع أقرانه، وهم مائة مثلاً، كلّ واحدٍ مرة، حصلت كثرة الغلبة مع انتفاء التناقض، لتعدد المحال، وهذا هو اللائق بمقام الافتخار. وظهر بهذا أن: قوله: لاستحالة الكثرة فيه مستدرك، وأن قوله: إن ذلك فيما يمكن وقوعه قليلاًَ وكثيراً فلا يفتخر منه إلا بالكثير لا يجديه نفعاً في مرامه، بل هو عليه كما عرفته. هذا آخر ما أورده الدماميني. وقد أجاد في ردّه، على هذا الفاضل. وقد أورد كلام هذا الفاضل في شرح التسهيل مسلّماً، وشنّع علىابن هشام غاية التشنيع. والبيت من قصيدة لعبيد بن الأبرص الأسدي، أوردها الأصمعي في الأصمعيات. وهذا مطلعها: البسيط طاف إلخ يال علينا ليلة الوادي *** من آل أسماء لم يلمم بميعاد أنّى اهتديت لركبٍ طال ليلهم *** في سبسبٍ بين دكداك وأعقاد يطوفون الفلا في كل هاجرةٍ *** مثل الفنيق إذا ما حثه الحادي إلى أن قال: اذهب إليك فإني من بني أسدٍ *** أهل القباب وأهل المجد والنادي قد أترك القرن مصفرّاً أنامله *** كأن أثوابه مجّت بفرصاد أبلغ أبا كربٍ عني وإخوته *** قولاً سيذهب غوراً بعد إنجاد لا أعرفنّك بعد اليوم تندبني *** وفي حياتي ما زوّدتني زادي فإن حييت فلا أحسبك في بلدي *** وإن مرضت فلا أحسبك عوّادي فانظر إلى ظلّ ملكٍ أنت تاركه *** هل ترسينّ أواخيه بأوتاد الخير يبقى وإن طال الزّمان به *** والشّرّ أخبث ما أوعيت من زاد وقوله: أنّى اهتديت، التفات من الغيبة إلى إلخ طاب. والسّبسب: المفازة والقفر. والدّكداك بفتح الدال، هو من الرمل: ما التبد ولم يرتفع. وأعقاد: جمع عقد بفتح فكسر، هو ما تعقّد من الرمل، أي: تراكم وطوّف: مبالغة طاف. والفنيق، بفتح الفاء وكسر النون: الفحل المكرم من الإبل. وقوله: اذهب إليك فيه حذف مضاف، أي: اذهب إلى قومك، بدليل قوله: فإني من بني اسد، فلا يرد أن مجرور إلى، وفاعل متعلّقها ضميران لشيء واحد. وقوله: قد أترك القرن هو بكسسر القاف: المثل في الشجاعة. والأنامل: رؤوس الأصابع. وأترك: يحتمل أن يكون من الترك بمعنى التخلية، ويتعدى إلى مفعول واحد فمصفرّاً: حال من قرن. ويحتمل أن يكون من الترك بمعنى التصيير، فيتعدّى لمفعولين ثانيهما مصفرّاً. والمعنى: اقتله، فينزف دمه، فتصفرّ أنامله. وقال الأعلم: خصّ الأنامل لأن الصفرة إليها أسرع، وفيها أظهر. وقال ابن السيرافي في شرح أبيات الغريب المصنّف: يريد أن يقتل القرن فتصفرّ أنامله. ويقال: إنه إذا مات الميّت اصفرّت أنامله. وأثواب: جمع ثوب. ومجّت: دميت، والمراد صبغت. والفرصاد، بكسر الفاء، قال الأعلم: هو التّوت، شبّه الدم بحمرة عصارته. وفي القاموس: الفرصاد: التوث وأحمره، وصبغ أحمر. والتوث فيه لغتان، يجوز في آخره بالثاء المثلثة، وبالمثناة.وأنكر صاحب الصحاح الأول، ورد عليه. حكى أبو حنيفة الدّينوريّ في كتاب النبات أنه بالمثلثة، وقال: لم يسمع في الشعر إلا به. وأنشد لمحبوب النّشهليّ: البسيط لروضةٌ من رياض الحزن وطرفٌ *** من القرية حزنٌ غير محروث أشهى وأحلى لعيني إن مررت به *** من كرخ بغداد ذي الرّمّان والتوث وقوله: لا أعرفنّك، لا: ناهية. ونهي المتكلم نفسه قليل. والأواخي: جمع آخية بالمد والتشديد، وهو حبل يدفن طرفاه في الأرض، وفيه عصيّة وحجير، فتظهر منه مثل عروة تشد إليه الدابة. والبيت الشاهد قد تداوله الشعراء، فبعضهم أخذ المصراع، وبعضهم أخذه تماماً بلفظه، وبعضهم أخذ معناه. قال أبو المثلّم الهذليّ، يرثي صخر الغيّ الهذلي: البسيط ويترك القرن مصفرّاً أنامله *** كأنّ في ربطتيه نضح إرقان والإرقان بكسر الهمزة، وبالقاف: الزّعفران. وقال المتنخّل الهذلي، يرثي ابنه أثيلة: البسيط والتّارك القرن مصفرّاً أنامله *** كأنّه من عقارٍ قهوةٍ ثمل وقال زهير بن مسعود الضّبّي: البسيط هلاّ سألت هداك الله ما حسبي *** عند الطّعان إذا ما احمرّت الحدق هل أترك القرن مصفرّاً أنامله *** قد بلّ من جوفه العلق وقالت ريطة الهذلية ترثي أخاها عمراً ذا الكلب: البسيط الطاعن الطعنة النجلاء يتبعه *** مثعنجرٌ من نجيع الجوف أسكوب والتارك القرن مصفرّاً أنامله *** كأنه من نجيع الجوف مخضوب وقال زهير بن أبي سلمى: البسيط قد أترك القرن مصفرّاً أنامله *** يميد في الرّمح ميد المائح الأسن المائح: الذي يملأ الدلو في أسفل البئر عند قلة مائها. والأسن، بفتح الهمزة وكسر السين: الذي أصابته ريح منتنة من ريح البئر وغير ذلك، فغشي عليه ودار رأسه. وقال أحد بني جرم: البسيط وأترك القرن مصفرّاً أنامله *** دامي المرادع منكبّاً على العفر وقالت عمرة بنت شداد الكلبية، ترثي أخاها مسعود بن شداد: البسيط قد يطعن الطعنة النجلاء يتبعه *** مضرّج بعدها تغلي بإزباد ويترك القرن مصفرّاً أنامله *** كأن أثوابه مجّت بفرصاد وتقدمت ترجمة عبيد بن الأبرص في الشاهد السادس عشر بعد المائة، ووقع نسبة البيت الشاهد في كتاب سيبويه إلى بعض الهذليين، ولم أره في أشعارهم من رواية السكري. والله أعلم. وأنشد بعده: الكامل لما تزل برحالنا وكأن قد على أنه قد يحذف الفعل بعد قد لدليلٍ، والتقدير: وكأن قد زالت، فحذف زالت لدلالة ما قبله عليه، وكسرت الدال من قد للقافية. وأراد الشارح الفعل الماضي كما مثل، فإن حذف المضارع بعدها غير مسموع. وهذا عجز، وصدره: أفد الترحل غير أن ركابنا وتقدم شرحه في الشاهد إلخ امس والعشرين بعد إلخ مسمائة. وأنشد بعده: الرجز أهل عرفت الدار بالغريين على أن هل في الأصل بمعنى قد كما في البيت، فكون قد حرف استفهام إنما تكون بهمزة الاستفهام، ثم حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال إقامةً لها مقامها. وقد جاءت على اللأصل في قوله تعالى: {هل أتى على الإنسان، أي: قد أتى. هذا أحد مذاهب أربعة، وهو مذهب الزمخشري، فهل عنده أبداً بمعنى قد، وأن الاستفهام إنما هو مستفاد من همزة مقدرة. قال في المفصل: وعند سيبويه أن هل بمعنى قد، إلا أنهم تركوا الألف قبلها، لأنها لا تقع إلا في الإستفهام. وقد جاء دخولها عليها في قوله: البسيط سائل فوارس يربوع بشدتن *** أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم انتهى. قال ابن يعيش في شرحه: هذا هو الظاهر من كلام سيبويه، وذلك أنه قال عند الكلام على من ومتى: وكذلك هل إنما هي بمنزلة قد، ولكنهم تركوا الألف إذ كانت هل إنما تقع في الاستفهام، كأنه يريد أن هل تكون بمعنى قد، والاستفهام فيها بتقدير ألف الاستفهام، كما كان ذلك في من ومتى، والأصل أمن، أمتى، ولما كثر استعمالها في الاستفهام حذفت أللف وتضمنت معناها. وكذلك هل الأصل فيها: أ هل، وكثر استعمالها في الاستفهام، فحذفت الألف للعلم بمكانها. انتهى. وما نقله عن سيبويه مذكور في باب بيان أم لم تدخل على حروف الاستفهام ولم تدخل على ألف. وقد وقع مثل هذا في أوائل كتاب سيبويه في باب ما يختار فيه النصب من ابواب الاشتغال أيضاً: وتقول أم هل فإنها بمنزلة قد، ولكنهم تركوا الألف استغناء، إذكان هذا الكلام لا يقع لا في استفهام. انتهى. ولم يقف ابن هشام على هذين النصين من كلام سيبويه، فاعترض على الزمخشري بقوله: ولم أر في كتاب سيبويه ما نقله عنه، وإنما قالفي باب عدة ما يكون عليه الكلم ما نصه: وهل هي للاستفهام لم يزد على ذلك. انتهى. وقد رد عليه الدماميني بأنه لا لزوم من عدم رؤيته هو لذلك عدم وقوعه، وكان الأولى به تحسين الظن بالزمخشري، فإنه أمام في هذا الفن، ثبت في النقل، وما نقله عن سيبويه مسطور في موضعين من كتابه. ثم نقل كلاميه من كتابه، وقال: فإن قلت فما تصنع في دفع المعارضة التي أشار إليها، وهي مخالفة قول سيبويه في باب عدة ما يكون عليه الكلام، لقوله في غيره: إن هل إنما تكون بمنزلة قد؟ قلت: أحمل ذلك على أنها للاستفهام باعتبار قيامها مقام الهمزة المحذوفة المفيدة للاستفهام، لا أنها موضوعة للاستفهام بنفسها، جمعاً بين كلاميه. انتهى. وكلام الزمخشري في كشافه، كالمفصل، قال: هل بمعنى قد في الاستفهام خاصة، والأصل أهل، بدليل قوله: أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم والمعنى: أ قد أتى، على التقرير والتقريب جميعاً، أي: أتى على ألإنسان قبل زمان قريب حينٌ من الدهر، لم يكن فيه شيئاً مذكوراً، أي: كان شيئاً منسياً غير مذكور. انتهى. وتبعه البيضاوي، فقال: هو استفهام تقرير وتقري، ولذلك فسر بقد، وأصل أهل، كقوله: أهل رأونا البيت انتهى. ومعنى قول الزمخشري: في الاستفهام خاصة أن هل لا تكون بمعنى قد إلا ومعها استفهام لفظاً كالبيت المتقدم، أوتقديراً كالآية الكريمة. فلو قلت: هل جاء زيد بمعنى قد جاء، من غير استفهام لم يجز. وقوله: على التقرير، أي: المفهوم من الاستفهام المقدر. وقوله: والتقريب، أي: المفهوم من هل بمعنى قد. وإنما استشهد الشارح بالبيت الذي أورده دون بيت المفضل فإنه طعن في ثبوته. قال ابن هشام: وقد رايت عن السيرافي أن الرواية الصحيحة: أم هل رأونا وأم هذه منقطعة بمعنى بل، فلا دليل فيه. انتهى. ولهذا عدل الشارح عنه، فلله دره ما أدق نظره. المذهب الثاني أن هل بمعنى قد دون استفهام مقدر، وهو مذهب الفراء. قال في تفسير الآية: المعنى قد أتى على الإنسان حينٌ من الدهر، وهل قد تكون جحداً وتكون خبراً، فهذا من إلخ بر. وقوله: لم يكن شيئاً مذكوراً، يريد: كان شيئاً، ولم يكن مذكوراً، ذولك حين خلقه من طينٍ إلى أن نفخ فيه الروح. انتهى. وتبعه الإمام الواحدي في الوسيط: قال المفسرون وأهل المعاني: قد أتى، فهل ها هنا خبر، وليس باستفهام. وقوله: على ألإنسان يعني آدم حينٌ من الدهر: قدر أربعين سنة، لم يكن شيئاً مذكوراً لا في السماء ولا في ألأرض، يعني أنه جسداً ملقى من طين قبل أن ينفخ فيه الروح. قال عطاء عن ابن عباس: إنما تم خلقه بعد عشرين ومائة سنة. انتهى. وقال ابن هشام: إن هل تأتي بمعنى قد، وذلك مع الفعل، وبذلك فسر قوله تعالى: {هل أتى على الإنسان حينٌ} جماعة منهم ابن عباس رضي الله عنهما، والكسائي، والفراء، والمبرد، قال في مقتضبه: هبل للاستفهام، نحو: هل جاء زيد، وتكون بمنزلة قد نحو قوله تعالى: {هل أتى على الإنسان}. انتهى. وبالغ الزمخشري فزعم: أنها ابداً بمعنى قد، وأن الاستفهام إنما هو مستفاد من همزةٍ مقدرة معها. وفسرها غيره بقد خاصة، ولم يحملوا قد على معنى التقريب، بل على معنى التحقيق. وقال بعضهم: معناها التوقع، و:أنه قيل لقومٍ يتوقعون إلخ بر عما أتى على الإنسان، وهو آدم عليه السلام. قال: والحين هو زمن كونه طيناً. انتهى. المذهب الثالث لابن مالك أنها تتعين لمعنى قد إن دخلت عليها همزة الاستفهام، وأن لم تدخل فقد تكون بمعنى قد تكون بعنى قد، وقد تكون للاستفهام: قال في التسهيل: وقد تدخل عليها الهمزة فيتعين مرادفة قد. انتهى. ومفهومه أنها لا تتعين لذلك إذا لم تدخل عليها الهمزة، بل قد تأتي لذلك ما في الآية، وقد لا تأتي له. المذهب الرابع أنها لا تأتي بمعنى قد، وإنما هي للاستفهام. وذهب إليه جماعة. ثم اختلفوا في الآية، فقال أبو حيان: هي على بابها من الاستفهام، أي: هو ممن يسأل عنه لغرابته، أتى عليه حين من الدهر لم يكن كذا، لإنه يكون الجواب: أتى عليه ذلك، وهو بالحال المذكورة. وقال مكي في تقرير كونها على بابها من الاستفهام: والأحسن أن تكون على بابها للاستفهام الذي معناه التقرير، وإنما هو تقرير لمن أنكر البعث، فلا بد أن يقول: نعم قد مضى دهراً طويل لا إنسان فيه، فيقال له: من أحدثه بعد أن يكن، وكونه بعد عدمه، كيف يمتنع عليه بعثه، وإحياؤه بعد موته؟ هو معنى قوله: ولقد علمتم النشأة الأولى فلو لا تذكرون ، أي: فهلا تذكرون فتعلمون أن من أنشأ شيئاً بعد أن لم يكن، قادر على أعادته بعد موته وعدمه. انتهى. قال السمين في الدر المصون: قد جعلها لاستفهام التقرير خلافاً لأبي حيان، في جعله استفهاماً محضاً، لأن التقرير الذي يجب أن يكون، لأن الاستفهام لا يرد من الباري تعالى إلا على هذا النحو. وإلى القرير ذهب الزجاح أيضاً. قال: معنى هل أتى على الإنسان ، أي: ألم يأت على الإنسان حينٌ من الدهر، لم يكن شيئاً مذكوراً. واللمعنى: قد كان شيئاً إلا أنه كان تراباً وطيناً إلى أن نفخ فيه الروح، فلم يكن قبل نفخ الروح فيه شيئاً مذكوراً. ويجوز أن يكون يعنى به جميع الناس، ويكون أنهم كانوا نطفاً، ثم علقاً، ثم مضغاً، إلى أن صاروا شيئاً مذكوراً. انتهى. وقد اختار هذا المذهب ابن جني، فقال في باب إقار الألفاظ على أوضاعها الأول من كتاب إلخ صائص: وأما هل فقد أخرجت عن بابها إلى معنى قد، نحو قول الله: هل أتى على الإنسان قالوا: معناه قد أتى عليه ذلك. وقد يكن عندي أن تكون مبقاةً في هذا الموضع على بابها من الاستفهام، فكأنه قال: والله أعلم: هل أتى على الإنسان هذا. فلابد في جوابه من نعم ملفوظاً به ومقدرة، أي: فكما أن ذلك كذلك، فينبغي للإنسان أن يحتقر نفسه. وهذا كقولك لمن تريد الاحتجاج عليه: بالله هل سألتني فأعطيتك، أم هل زرتني فأكرمتك؟ أي: فكما أن ذلك كذلك، فيجب أن تعرف حقي عليك. ويوؤكد هذا قوله تعالى: {إنا خلقنا الإنسان} إلى هديناه السبيل أفلا تراه عز اسمه كيف عدد عليه أياديه وألطافه له. فإن قلت: فما تصنع بقول الشاعر: أهل رأونا بسفح القف ذي الأكم ألا ترى إلى دخول همزة الاستفهام على هل، ول كانت للاستفهام لم تلاق همزته، لاستحالة اجتماع حرفين لمعنى واحد. وهذا يدل على خروجها عن الاستفهام إلى إلخ بر. فالجواب أن هذا يمكن أن يقوله صاحب هذا المذهب. ومثله خروج همزة الإستفهام إلى التقرير. ألا ترى أن التقرير ضرب من إلخ بر وذلك ضد الإستفهام. ويدل على أنه قد فارق الاستفهام امتناع النصب بالفاء في جوابه والجزم بغير الفاء. ألا تراك لا تقول: ألست صاحبنا فنكرمك، كما تقول: لست صاحبنا فنكرمك، ولا تقول في التقرير: أأنت في الجيش أثبت اسمك، كما تقول في الا ستفهام الصريح: أأنت في الجيش أُثبت اسمك، كما تقول: ما اسمك أذكرك، أي: إن أعرفه أذكرك. ولأجل ما ذكرنا من حديث همزة التقرير ما صارت تنقل النفي إلى الإثبات، والإثبات إلى النفي. وذلك كقوله: الوافر ألستم خير من ركب المطاي *** وأندى العالمين بطون راح أي أنتم كذلك. انتهى كلامه. وقوله: لاستحالة اجتماع حرفين لمعنى واحد على نمط ما تقدم عنه في الشاهد السادس بعد التسعمائة، وتقدم رده. وصوب أبو حيان هذا المذهب، ورد ما عداه، قال في شرح التسهيل: إن مرادفه هل لقد لم يقم عليها دليل واضح، إنما هو شيء قاله المفسرون في قوله تعالى: {هل أتى على الإنسان حين}: إن معناه قد أتى. وهذا تفسير معنىً لا تفسير إعراب، ولا يرجع إليهم في مثل هذا، وإنما يرجع في ذلك إلى أئمة النحو واللغة، لا إلى المفسرين. وإما البيت فيحتمل أن يكون من الجمع بين أداتين لمعنىً واحد على سبيل التوكيد، كقوله: الوافر ولا للما بهم أبداً دواء بل الجمع بين الهمزة وهل أسهل، لاختلاف لفظهما. وتبعه ابن هشام في المغني، فقال: وقد عكس قوم ما قاله الزمخشري فزعموا: أن هل لا تأتي بمعنى قد أصلاً. وهذا هو الصواب عندي، إذ لا متمسّك لمن أثبت ذلك إلاّ أحد ثلاثة أمور: أحدها: تفسير ابن عباس رضي الله عنهما، ولعلّه إنما أراد أن الاستفهام في الآية للتقرير وليس باستفهام حقيقي. وقد صرح به جماعة من المفسرين، وقال بعضهم: لاتكون هل للإستفهام التقريري، وإنما ذلك من خواص الهمزة. وليس كما قال. والثاني: قول سيبويه الذي شافه العرب، وفهم مقاصدهم. وقد مضى أن سيبويه لم يقل ذلك. والثالث: دخول الهمزة عليها في البيت، والحرف لا يدخل على مثله في المعنى، وهو شاذ ويمكن تخريجه على أنه من الجمع بين حرفين بمعنى واحد على سبيل التوكيد. انتهى باختصار. ويرد عليهما أن ما ردّاه هو قول سيبويه إمام البصيرين والمبرد، وقول إمام الكوفيين الكسائي وتلميذه الفراء، وكلهم أئمة النحو والتفسير واللغة، وقد خالطوا العرب الفصحاء، وسمعوا كلامهم، وفهموا مقاصدهم، وثبت النقل عنهم، فيتعين إلخ ذ به وردّ من خالفهم في هذا الباب. والله أعلم بالصواب. وقوله: أهل عرفت الديار بالغريين هو من قصيدة لخطام المجاشعي، تقدم شرح أبيات منها في الشاهد إلخ امس والثلاثين بعد المائة، مع ترجمته. قال اللخمي في شرح ابيات الجمل: هذه القصيدة من بحر السريع وربما حسب من لا يحسن العروض أنها من الرجز. وليس كذلك، لأن الرجز لايكون فيه معولان فيرد إلى فعولان. ومثله: السريع قد عرضت أروى بقول إفناد وهو مستفعلن مستفعلن فعولان. انتهى. والغريان: موضع بالكوفة نحو فرسخين عنها وهو مثنى الغري، بفتح الغين المعجمة، وكسر الراء المهملة وتشديد الياء. قال البكري في معجم ما استعجم: قال المفجع: الغري: موضع بالكوفة، ويقال: إن قبر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالغري. ويقال: الغريان. ويقال أن النعمان بناهما على قبري عمرو بن مسعود.، وخالد بن نضلة لما قتلهما. قالت هند بنت معبد بن نضلة ترثيهما: الطويل ألا بكر الناعي بخيري بني أسد *** بعمرو بن مسعودٍ وبالسيد الصمد انتهى. وقوله: النعمان خطأ، وصوابه المنذر. والغريان في الأصل: منارتان على قبري بن عمرو بن مسعود، وخالد بن نضلة الأسديين، كان المنذر الأكبر اللخمي يغريهما بالدماء، أي: يطليهما بها. كذا في كتاب أسماء المغتالين من الأشراف في الجاهلية والإسلام لابن حبيب، وفي ذيل الأمالي للقالي، وفي الأغاني وفي الأوائل لأبي ضياء الموصلي. وزعم الجوهري، وتبعه جماعة منهم ابن نباتة في شرح رسالة ابن زيدون أنهما قبرا مالك وعقيل: نديمي جذيمة الأبرش، وسميا غريين لأن النعمان كان يغريهما بدم من يقتله في يوم بؤسه. وهذا غلط واشتباه من وجهين: أحدهما أن بين جذيمة الأبرش، وبين النعمان بن المنذر ستة ملوك، أحدهم: عمرو اللخمي، وهو ابن أخت جذيمة الأبرش. ثانيهم: امرؤ القيس بن عمرو المذكور. ثالثهم: النعمان بن امرئ القيس المذكور، وهو النعمان الأكبر الذي بنى إلخ ورنق. رابعهم: المنذر بن امرئ القيس صاحب الغريين، وهو المنذر الأكبر ابن ماء السماء، أخو النعمان الأكبر. خامسهم: المنذر بن المنذر وهو الأصغر. سادسهم: أخوه عمرو بن المنذر، وهو عمرو بن هند. ثم النعمان بن المنذر الذي ذكره الجوهري. وكلهم ملوك الحيرة، وهي أرض بالكوفة. وإذا كان الأمر على ما ذكر فما معنى تغريتهما النعمان بن المنذر بالدم، مع كونهما نديمي جذيمة الأبرش. الثاني: أن الذي كان له يوم بؤس، إنما هو المنذر الأكبر. ولم يتنبه لهذا ابن برّي في حاشيته على الصحاح ولا الصفدي فيما كتب عليه. وهذه قصة الغريين من عدة طرق أحدها: لابن حبيب، قال في كتاب المغتالين: ومهم عمرو بن مسعود، وخالد بن نضلة الأسديان، وكانا يفدان على المنذر الأكبر في كل سنة، فيقيمان عنده وينادمانه، وكانت أسد وغطفان لايدينون للملوك، ويغيرون عليهم. فوفدا سنة م السنين فقال النمنذر لخالد يوماً، وهم على الشراب: يا خالد، من ربك؟ فقال خالد: عمرو بن مسعود ربي وربك! فأمسك عليهما ثم قال لهما: ما يمنعكما من الدخول في طاعتي، وأن تدنوا مني، كما دنت تميم وربيعة؟ فقالا: أبيت اللعن، هذه البلاد لا تلائم مواشينا، ونحن مع هذا قريب منك بهذا الرم، فإذا شئت أجبناك. فعلم أنه لا يدينون له، وقد سمع من خالد الكلمة الأولى، فأوحى إلى الساقي فسقاهما سماً، فانصرفا من عنده بالسكر على خلاف، ما كانا ينصرفان، فلما كان في بعض الليل أحس حبيب بن خالد بالأمر، لما رأى من شدة سكرهما، فنادى خالداً فلم يجبه، فقام إليه فحركه فسقط بعض جسده، وفعل بعمروٍ مثل ذلك فكان حاله كحال خالد، وأصبح المنذر نادماً على قتلهما. فغذا عليه حبيب بن خالد، فقال: أبيت اللعن، أسعدك الأهل، نديماك وخليلاك تتابعاً في ساعة واحدة، فقال له: يا حبيب، أعلى الموت تستعديني، وهلى ترى إلا ابن ميت، وأخا ميت؟ ثم امر فحفر لهما قبران بظاهر الكوفة، فدفنا فيهما، وبنى عليهما منارتين، فهما الغريان، وعقر على كل قبر خمسين فرساً، وخمسين بعيراً، وغراهكما بدمائهما، وجعل يوم نادمهما يوم نعيم، ويم دفنهما يوم يؤس. هذا ما أورده ابن حبيب. وقال القالي في ذيل أماليه: حدثنا أبو بكر بن ديري: أخبرنا عبد الرحمن بن عمه، قال: قال لي عمي: سمعت يونس بن حبيب، يقول: كان المنذر بن ماء السماء جد النعمان بن المنذر، ينادمه رجلان من العرب: خالد بن المضلل، وعمرو بن مسعود الأسديان. فشرب ليلة معهما فراجعاه الكلام فأغضباه، فأمر بهماوفجعلا في تابوتين ودفنا بظاهر الكوفة؛ فلما أصبح سأل عنهما فأخبر بذلك، فندم وركب حتى وقف عليهما، وأمر ببناء الغريين وجعل لنفسه يومين: يوم بؤس، ويوم نعيم، في كل عام، فكان يضع سريره بينهما، فإذا كان يوم نعيمه، فأول من يطلع عليه وهو على سريره يعطيه مائة من إبل الملوك، وأول من يطلع عليه في بؤسه يعطيه رأس ظريان، ويأمر بدمه فيذبح، ويغرى بدمه الغريان. انتهى. وكذا روى هذه الحكاية إسماعيل بن هبة الله الموصلي في كتاب الأوائل عن الشرقي بن القطامي. وقد رجع المنذر عن هذه السنة السيئة. روى الموصلي في أوائله أن المنذر استمر على ذلك زماناً حتى مر به رجل من طيئ، يقال له: حنظلة بن عفراء، فقال له: أبيت اللعن، أتيتك زائراً، ولأهلي من خيرك مائراً، فلاتكن ميرتهم قتلي. فقال: لا بد من ذلك، وسلني حاجة قبله أقضها لك. قال: تؤجلني سنة أرجع فيها إلى أهلى، وأحكم أمرهم، ثم أرجع إليك في حكمك. قال: ومن يتكفل بك حتى تعود؟ فنظر في وجوه جلسائه، فعرف منهم شريك بن عمروٍ، أبا الحوفزان بن شريك، فأنشأ يقول: مجزوء الرمل يا شريكاً يا ابن عمرو *** هل من الموت محاله يا أخا كل مصابٍ *** يا اخا من لا أخا له يا أخا شيبان فك ال *** يوم رهناً قد أنى له إن شيبان قبيلٌ *** أكرم الله رجاله وأبيوك إلخ ير عمروٌ *** وشراحيل الحماله وفتاك اليوم في المج *** د وفي حسن المقاله فوثب شريك، وقال: ابيت اللعن، يده يدي، ودمه دمي إن لم يعد إلى أجله. فأطلقه المنذر، فلما كان القبل جلس في مجلسه، وإذا ركب قد طلع عليهم، فتأملوه فإذا هو حنظلة قد أقبل متكفناً متحنطاً، معه نادبته، وقد قدمت نادبة شريك تندبه، فلما رآه المنذر عجب من وفائهما وكرمهما، فأطلقهما وأبطل تلك السنة. وقد ذكر في إبطال المنذر هذه السنة غير هذا؟ وأورده الموصلي والميداني في مثلٍ، وهو: إن غداً لناظره قريب وهو قطعة من بيت: الوافر وإن يك صدر هذا اليوم ولى *** فإن غذاً لناظره قريب وأنشد بعده:
|